استحوذت السفسطة على تفكير أكثر الشباب الإغريقيين، وأصبحت كأنما هي الفكرة المسيطرة على أثينا، وعز على أساطين الفلسفة والجدل - وعلى رأسهم أرسطو أن يتسنم هؤلاء الشباب الأحداث ذروة الفكر ويظهروا بمظهر المنتصر في محاوراتهم ومجادلاتهم، وأن تتهاوى صروح الفلسفة الإغريقية أمام جدلهم القائم على فكرة واحدة؛ هي التشكيك في المعارف البدهية إلى حد إنكار كل الحقائق الموضوعية.
وضاق المسلك الجدلي في وجه الفلاسفة الكبار وهم يواجهون هذه الفكرة التي لا تبقي من نظرياتهم ولا تذر، واستجمعوا عقولهم لمحاصرة هذا الوباء وتحطيم غرور هؤلاء الشبان.
والواقع أن السفسطة لم تنشأ اختراعاً من أصحابها، وإنما هي إفراز من إفرازات مجتمع وثني حقت عليه الضلالة بانقطاعه عن نور الوحي وتعلقه بأذيال الخراصين، وأصولها مستمدة من الفكر الإغريقي نفسه؛ ذلك الفكر الذي قام على أساس نظرية الجواهر والأعراض - أو الذوات والصفات - إذ يجعلون لكل موجود جوهراً هو حقيقته وماهيته، وأعراضاً وهي صفات طارئة، ويتصورون الذات مجردة من كل صفة!!
فما زادت السفسطة شيئاً على أن جعلت الموجودات كلها في حكم الأعراض التي لا جواهر لها، ومن ثم أنكرت - أو شككت - أن يكون في إمكان العقل إثبات أي حقيقة جوهرية.
وإنما انتشرت هذه الفلسفة الحمقاء وطغت بسبب تهافت الفلسفة المقابلة، وقيامها على التخرصات والأوهام، وتناقضها الشديد.
ففي حين ترى الفلسفة العامة أن الحقائق التصورية والتصديقية ثابتة في ذاتها، وأن اختلاف العقول في إدراكها أو تناقضها في الحكم عليها يعود إلى طبيعة التفكير الإنساني ذاته، ترى السفسطة أن المشكوك فيه - حقيقة وأصلاً - هو وجود هذه الحقائق، وأنه ما من شيء نفته الفلسفة إلا والاحتمال قائم بأن يكون إثباته أولى، والعكس بالعكس!
وكذلك ترى أنه ما من خديعة أثبتت الفلسفة أن الحس والعقل يقعان فيها إلا ويحتمل انطباقها على ما تظنه الفلسفة قطعيات وبدهيات - إن لم يكن ذلك بيقين!
وقد دخلت السفسطة من ثغرة كبرى في التفكير البشري عامة؛ وهي النسبية اللازمة له؛ فالعلم البشري -المحدود أبداً- لا يستطيع أن يتصور شيئاً غائباً إلا بالنسبة لشيء آخر مشاهد، بل ربما كانت معارفه كلها معتمدة على هذا وهو لا يشعر، أما إدراك كنه الذوات وحقائقها بإطلاق وتجريد، فإن لم يكن محالاً إلى الأبد فهو -في كثير من الأشياء- عسير للغاية.
ومن هنا رأت السفسطة أن إنكاراً جذرياً لكل الحقائق - مهما قيل عن بداهتها - كفيل بأن ينسف جميع الأسس الفلسفية التي تقوم -بطبيعة الحال- على الاستدلال على المجهول بالمعلوم، وقياس الغائب على الشاهد، واستنباط النتائج المتنازع فيها من المقدمات المسلمة، وبذلك تتفرد بالانتصار في هذه المعارك الجدلية الضارية.
وهنا لم يجد الفلاسفة الكبار بداً من البرهنة على ثبوت الجواهر أو الحقائق المطلقة استنقاذاً للمعرفة من الانهيار، وفي دوامة البحث المضني تفتق عقل أفلاطون عن نظرية المثال التي تزعم أن لكل شيء في عالم الواقع نظيره المطلق في عالم المثال.
وكأن أفلاطون اعتقد أن رفع حقائق الأشياء من عالم الواقع إلى عالم المثال يجعلها في منأى عن تشكيكات السفسطيين.
وأثبت أفلاطون كليات مطلقة مثل العقل الكلي، والنفس الكلية، والعلم الكلي، وغير ذلك على أنها ماهيات وجودية في عالم المثال، وما يوجد في الواقع من آحاد العقول والنفوس هو أجزاء منها.
وجاء تلميذه أرسطو فأراد أن يضع منهجاً عقلياً للتفكير يجابه السفسطة، فاستمد من أستاذه أصل الفكرة - حين قرر أن الأفراد والأعيان الموجودة ما هي إلا أجزاء للوجود الكلي المطلق الذي هو ماهية هذه الأفراد وحقيقتها الجوهرية، وفي نظره أن إنكار السفسطيين لحقائق الذوات المشخصة لا يرقى إلى القدح في وجود الماهيات المطلقة.
ومن هنا ظهرت لدى المؤمنين بفلسفته ضرورة التشبث بإثبات هذه الماهيات لتظل المعقل الأخير أمام هجمة التشكيك السفسطية.
وعلى هذه القاعدة بنى أرسطو ما يسمى المنطق -كما سبقت الإشارة- وفصل الحديث عن الكليات الخمس التي أهمها النوع الذي هو تمام الماهية، وهو الكلي المقول على كثيرين متفقين في الحقيقة في جواب (ما هو؟) مثل حيوان ناطق، في جواب (ما الإنسان؟).
وإثبات هذه الكليات لم يقتصر على مبحث التصورات، بل تعداه إلى مبحث التصديقات، حيث اعتمد المنطق على قياس الشمول دون قياس التمثيل، بل غالى المناطقة حتى أسقطوا قيمة قياس التمثيل بمرة، واعتبروا التعريف بالمثال من أنواع التعريف الخطأ.
تلك هي أصل قصة وجود الأنواع خارج الذهن، عرضناها دون الإطالة بردها ونقضها،
وحسبنا أننا رأينا كيف أن الفلسفة اليونانية المتخبطة قد عالجت جنون السفسطة - التي تنكر الحقائق الحسية - بعوج المنطق الذي لم يجد سبيلاً إلى إثبات البدهيات إلا باختلاف المعدومات وتكلف المحالات، وأحسن أحواله أنه يعرف الجلي بالخفي.
وكان الوضع الطبيعي أن تبقى هذه التخبطات العمياء رهينة بيئتها وحبيسة أرضها، فلا تفسد بها عقول بني البشر الآخرين، ولكنها - وهو الأمر المحزن حقاً - أفسدت العقول والفطر التي استنارت بنور الوحي ونعمت بالعافية من هذه الأوبئة.
والمؤلم جداً أن يتطوع بعض المنتسبين للإسلام بنقل هذه الفلسفة والتعصب لها وتكدير صفو التفكير الإسلامي بها، فلو أنها جاءت نتيجة استعباد يوناني للمسلمين لكان للعذر مقال - مع أن أمة الوحي لا عذر لها قط في اتباع الضلالات - فكيف إذا أخذتها طائعة مختارة!!
لقد نقلت هذه الفلسفة والمعركة بين المرجئة وأهل السنة على أشدها، فاستنصر بها أولئك المبتدعة في مسألة الإيمان، بعد أن كان موضوعها الأصلي هو نفي صفات الله تعالى، ولكن الجهمية كانوا يجمعون بين نفي الصفات والإرجاء، ودار الزمان دورته، وإذا بعقيدة الجهمية تصبح عقيدة الكثرة الكاثرة من المشتغلين بالعلم الشرعي، وإذا بأكثر متون العقائد انتشاراً يبدأ بعبارة [ حقائق الأشياء ثابتة والتشكيك فيها سفسطة ]، وكأنها هي عقيدة للأثينيين من أتباع أرسطو، لا للمسلمين أتباع محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!
جاء هؤلاء المرجئة فأثبتوا تلك الماهيات المطلقة التي اختلقها أفلاطون وأرسطو، وطبقوا كل نتائجها على موضوع الإيمان فكانت النتيجة القاصمة وهي: أن أعمال الإسلام كله ابتداء من قول لا إله إلا الله وانتهاء بالنوافل، ما هي إلا عرض للإيمان وليس من ماهيته، وأنه لم يأتِ بشيء من ذلك قط يدخل الجنة بسلام - ولو بعد حين-!!